شؤون عربية

جمهورية جنوب السودان : مأزق الهوية
واللّغة والإسلام (1)

 إعداد : مجلة مؤسسة الفكر العربي

أما وقد تقسّم السودان، وصار دولتين، واعترفت دول كبرى، ومعها دول نامية كثيرة في العالم بـ "جمهورية جنوب السودان"، وصارت الدولة رقم 193 في الأمم المتّحدة، و الـ 54 في الاتحاد الإفريقي. وشكّل مجلس الأمن الدولي بعثة خاصة إلى الدول الجديدة مؤلفة من 7 وحتى بترحيب رئيس "الجمهورية الأم" في الشمال، عمر
البشير، يحقّ لكلّ سوداني وكلّ عربي أن يتساءل ماذا عن هوية هذه الدولة؟ ماذا عن ثقافتها وسياستها الاستراتيجية بشكل عام؟ هل ستنضم جمهورية جنوب السودان إلى جامعة الدول العربية، أو أنها ستُطلّق العرب، والثقافة العربية والّلغة العربية إلى الأبد، خصوصاً بعد الإعلان في دستورها الانتقالي بأن الإنكليزية هي الّلغة الرسمية للبلاد؟
آلاف جندي وحوالى الألف خبير مدني في الشؤون
التنظيمية والإدارية والتنموية كافة، لترسيخ النهضة والبناء، ومنع العودة إلى أيّ شكل من أشكال ثقافة العنف والاقتتال... أما وقد حدث هذا كلّه بوضوح، وبرعاية وحضور،



قبل الإجابة عن هذه الأسئلة يجدر التعرّف إلى هذه الدولة الحديثة، والتي اتّخذت من أكبر مدنها جوبا عاصمة لها .

تبلغ مساحة جمهورية جنوب السودان أكثر من 640.000 كم مربع. يحدّها من الشمال الدولة التي انفصلت عنها، ومن الجنوب الشرقي أثيوبيا وكينيا وأوغندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، ومن الغرب إفريقيا الوسطى. ويبلغ تعداد سكانها حوالى 8.5 مليون نسمة معظمهم يتوزّعون في العاصمة جوبا، ومختلف المدن الرئيسية مثل "واو" و "ملكال" و "رومبيك"، و "أويل" و"ياي" وغيرها... وغيرها.

على مستوى الأديان والمعتقدات ثمة 65% من الجنوبيّين يدينون بالوثنية وعبادة السحر والأساطير، ونحو 17% منهم مسيحيون، والباقي هم من المسلمين (المعلومات مستقاة من الكتاب السنوي للتبشير والذي يصدره مجلس الكنائس العالمي – إحصاءات 1981. ويقول الباحث السوداني الخليفة الساعوري أن عدد المسلمين في جنوب السودان زاد بالتأكيد عن هذا العدد ويحتمل أن تكون النسبة الجديدة قد وصلت إلى 20%)، حيث أمّ صلاة الجمعة " الأخيرة" ببعضهم في مسجد جوبا العتيق، رئيس حزب الأمة القومي، الصادق المهدي، وذلك على هامش تلبيته دعوة حكومة الجمهورية الحديثة العهد للمشاركة باحتفال إعلان استقلالها والذي توافق تاريخه في 9/ 7/ 2011. وبعد الصلاة، صرّح الصادق المهدي للإعلام السوداني الجنوبي بأنه "جاء بقلب مثقّل بالتناقضات، والسبب فشل السودانيّين في إدارة التنوّع في البلاد". وأردف: "قدمنا إلى الجنوب للمرّة الثالثة منذ اتفاقية السلام تلبية لدعوة من حكومة الجنوب للمشاركة في إعلان دولة جنوب السودان، التي نتمنّى لها النجاح في حكم يوفّر الأمن والعدل والحرية والسلام لأهلنا في الجنوب".

مصير الّلغة والهوية

تضمّ دولة جنوب السودان مئات القبائل، الكبير منها والصغير، ومن أبرزها: الدينكا، والنوير، والشيرلوك، والشلك، وباري، والأشولي، والجور، والباريا، والزاندي، والفرتيت، وتوقو، وكارا، وشالا، وبلندا... وتشكّل هذه القبائل على مستوى الهوية، وحدات عرقية بلهجات مختلفة يُقدّر عددها بـ 400 لهجة، لا تزال الّلغة العربية هي التي تشكّل لغة التواصل والتفاهم في ما بينها جميعاً... حتى آل تصنيف المجموعات القبائلية ذات الازدواج الّلغوي إلى ما بات يُتداول باسمه ويُعرف في السودان كلّه، بـ "مجموعة عربي جوبا" و "مجموعة عربي واو" و "عربي ملكال"...إلخ.


جدير بالذكر أن الّلغة العربية دخلت السودان مع الفتح الإسلامي من الشمال والشرق، حيث بدأت مجموعات من العرب في الهجرة إلى السودان من مصر والحجاز.. ولاحقاً من المغرب وشمال إفريقيا. والإسلام ساعد في انتشار الّلغة العربية في كلّ أرجاء البلاد السودانية، حتى احتوت هذه الّلغة كلّ الّلهجات التي يتشافه فيها المسلمون والمسيحيّون والوثنيّون واللادينيّون على حدّ سواء.

كما أن الصلوات والترانيم الدينية المصاحبة لها في كنائس الجنوبيّين، فضلاً عن خطب الكهنة في الآحاد والمناسبات والأعياد، تتمّ كلّها بالّلغة العربية، الأمر الذي يدلّ على تجذّر لغة الضاد في وجدانات القبائل والمجموعات الجنوبية غير العربية وغير الإسلامية في السودان.


وعلى مدار احتلاله المباشر وغير المباشر للسودان، فشل الاستعمار البريطاني، في كلّ محاولاته لإقصاء الّلغة العربية عن ثقافة أهل الجنوب وتاريخهم، على الرغم من بذله جهوداً جبارة لتحقيق ذلك، ومنها فرضه ما سمّاه "قانون المناطق المقفولة" في العشرينيّات من القرن الماضي، أي عزل الّلغة العربية عن محيطها التداولي اليومي في الجنوب ومنع الجنوبيّين، خصوصاً الوثنيين منهم، من الانتقال إلى شمال البلاد خشية اعتناقهم الإسلام وتعلّم الّلغة العربية. كما مُنع الشماليون من دخول جنوب وطنهم، ولم يسمح إلا للبعثات التبشيرية المسيحية التنقل في مختلف مناطق السودان وخصوصاً في جنوبه، وأغلب هذه البعثات السياسية/ الدينية كانت من أوروبا، وتحديداً من إيطاليا وفرنسا وهولندا والسويد.


باختصار، اقتضى قانون " المناطق القفولة" عملياً إقامة شريط خال من السكان بين عموم مناطق شمال السودان وجنوبه كي لا يستمرّ التواصل، أو الاختلاط الثقافي الطبيعي السائد منذ قرون في هذا البلد. لكن الاستعمار الإنكليزي فشل في سحق الهوية الثقافية للبلد شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، وتمكّنت ثقافة رسوخ الإسلام والّلغة العربية، خصوصاً في الجنوب، من دحر مخططات بريطانيا وقوانينها الالتفافية كافة.


من جهة أخرى، تنبأ مدير معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية في جامعة الخرطوم، البروفسور محمد الأمين أبو منقة بتآكل وانقراض كلّ الّلغات الصغيرة أو المحدودة الانتشار في السودان. وفي رأيه أنه، حتى ولو حصل انفصال الجنوب عن الشمال ( وقد حصل بالفعل) فإن الّلغة العربية ستبقى هي لغة التخاطب والتواصل فيه.


ويؤيد وجهة نظر البروفسور الأمين أبو منقة هذه، وزير الشؤون الدينية السابق، وأحد أبناء جنوب السودان، د. عبدالله دينق، قائلاً " إن العربية ستستمر كلغة تخاطب، وتفاهم في مجتمع الجنوب ولعقود طويلة". قد تُقصى من المدارس،كما يقول، "لكنها ستظل قاطنة وجدان الناس وأفئدتهم".

أما علي أحمد محمد بابكر رئيس مجمع الّلغة العربية في السودان فيرى أن العربية هي لغة التخاطب والتعليم لمدّة طويلة في الجنوب، وهي الرابط بين قبائله كلّها. وعليه، "ليس من مصلحة الجنوب أن يقطع معها كلغة جامعة نظراً للمصالح المشتركة بين السودانيّين".

ومع ذلك، فثمّة من يدعو إلى التخلص ونهائياً، من مناهج تعليم الّلغة العربية في جميع مدارس الجنوب وجامعاته، ولحساب تسييد الّلغة الإنكليزية؛ ومن هؤلاء وزير التربية والتعليم حسين مايكل ميلي، الذي نصحه كثيرون، كما نُصحت حكومته، حتى بعد الاستقلال، بالتخلّي عن هذا الخيار، الذي لا ينتج سوى سياسة عنصرية. لا بأس أن يتعلّم أهل الجنوب وأهل الشمال الّلغة الإنكليزية، وما أمكنهم من لغات، أما أن يعادوا لغة آبائهم وأجدادهم، والمدون بها تراثهم والتداول به من جيل لجيل، فهذا طبعاً ليس طعناً بالتراث السوداني المتنوّع والعظيم فحسب، وإنما هو " تصرف ينمّ عن عصبية وعنصرية لا مبرّر لهما"، كما يقول الباحث السوداني د. الخليفة بن محمد الساعوري المقيم في فرنسا، والذي صرّح لنشرة "آفاق": " كلّ مسؤول سياسي ومثقف ومتعلّم في الجنوب، من الرئيس سلفاكير إلى مطلق مواطن عادي أمّي، أو نصف أمي يسلّم بأن لغة "عربي جوبا" هي التي يتفاهم بها السواد الأعظم من الإثنيات والجماعات الدينية في الجنوب، وتتحرك من خلالها ألسنتهم ووجداناتهم وسائر ضمائرهم المتكلمة"... ويردف الساعوري، قائلاً لنشرتنا "من الصعوبة بمكان تجاوز الّلغة العربية إنساناً وثقافةً وروحاً وقلباً وعقلاً وتراثاً وشارعاً وبيتاً في جنوب السودان، مهما فعلوا، ومهما اتخذوا من قرارات وكرّسوها في دساتير آنية ومستقبلية".

وفي ردّه على وزير الثقافة في حكومة جنوب السودان جبريل تشانغ، والذي كان قال للإعلام "بأن الإنكليزية ستصبح لغة رسمية في الجنوب، وسنعلّم هذه الّلغة بكثافة حتى تتلاشى الّلغة العربية"... كما كان قال الوزير تشانغ أيضاً: " سنضع لغة سودانية متفردة في الجنوب عن طريق دمجٍ للّغات التي تستخدمها مختلف القبائل السودانية". (وكالة يونهاب- من حوار أجراه معه المراسل كو وونغ سوك).. في ردّه على الوزير تشانغ، قال الساعوري: "يبدو أن وزيرنا في حالة حرب مستمرّة، ويريد اجتثاث لغات، أو لهجات آبائه وأجداده. هو حرّ في قول ما يريد، لكن كلامه ليس علمياً، ولا ثقافياً هنا، خصوصاً حين يقول إنه سيولّد لغة سودانية متفردة عن طريق دمج الّلغات التي تستخدمها مختلف القبائل السودانية؟ أي لغة هذه التي ستولد هنا؟ وكيف سيجتثّ التأثيرات العربية الغلابة فيها؟.... هذا ليس كلاماً ثقافياً، ولا علمياً.. ليسمح لنا السيد وزير الثقافة... إن كلامه هذا أشبه بقصف عسكري عنيف بقنابل السياسة".


ويطلب الساعوري من الوزير تشانغ " التمهل علينا قليلاً، فجون غرنق الزعيم والرمز الجنوبي السابق، كان يخاطب جنوده من القبائل الجنوبية كلّها بالّلغة العربية. ومثله فعل ويفعل رئيس الدولة سلفاكير ميارديت، هذا الذي لا يجيد أيضاً معظم لغات القبائل السودانية الجنوبية الأخرى، والتي تشكّل ما مجموعه 16% من المجموع العام للقبائل في السودان كلّه. سلفاكير يخاطب الجنوبيّين بالعربية، أو على الأصحّ يخاطبهم بلغة "عربي جوبا".. فهل يعتقد البعض حقاً بإمكان إلغاء الـ "عربي جوبا؟!"

إذن، بات من الصحيح القول إن الأزمة في جمهورية جنوب السودان الجديدة هي أزمة هوية، وأزمة كيان لغوي (إضافةً طبعاً إلى أزمة الهويات الإثنية) وشخصية ثقافية لمجتمع مركّب من الصعب سلخه عن تراثه ولسانه ومناهج تفكيره ومنطلقاته، هكذا بقرار متسرّع أو تحليل عابر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق