مقالات

حروب الزهور( رائحة الاقتصاد)

إعداد : (مؤسسة الفكر العربي)  بعدما كانت زراعة الزهور والورود عملاً ممتهاً وطلباً للراحة والاستجمام، سواء برائحته أم بشكله ولونه، غدت هذه الزراعة قطاعاً اقتصادياً غايته الربح، فاستولت عليه العولمة والشركات العابرة للقوميات، فلم يبقَ من الوردة إلا الشكل واللون بعدما تحوَّلت رائحتها إلى مال.

تقليدياً، يُزرَع الورد مساكبَ وأحواضاً تجلّل نوافذَ البيوت ومداخلها وعند أبوابها وعلى حوافّ المصطبات فتُدخِل رائحتُه البهجةَ إلى القلوب فلا يُكتفى بمنظره المُبهِج للعين، حين تقع على ورود تطلّ من حوض نافذة، أو مرج زهور ممتد على جانب طريق، أو باقة ورد في محل لبيعٍ الزهور. ومن لا تخطر في باله هديةً باقةُ الورد هذه، قبل أيّ هدية أخرى، مهما كانت المناسبة، سواء في الأعياد أم في الزيارات؟ وسوق الزهور واسعة في اتساع العالم، لكن إنتاجها لا يكفي لتلبية دور الزهور في علاقات البشر أتراحاً وأفراحاً، فهو دور اجتماعي قبل أن يكون جمالياً. أما زراعة الزهور على نطاق واسع فصناعةٌ تُفقِد الورد رونقه العاطفي ومعانيه الرقيقة، وتجعله سلعةً، شكلاً بلا مضمون، شبيهاً بتمثال الرخام الذي ضربه النحات الشهير رودان، ذات مرة بالإزميل لأنه لم ينطق بل بقي شكلاً بلا روح..
جميعاً نحب الزهور، لكن الزهور تحِب بلدان الجنوب، ففي الشمال وبلدان المناخ البارد تُزرَع الزهور في بيوت بلاستيكية تتطلّب نفقات باهظة لتوفير شروط التدفئة اللازمة والإضاءة طيلة 24 ساعة يومياً، أما أفريقيا والبلدان ذات الأراضي بركانية التربة، وحيث الشمس تُعطي الضوء والحرارة 12 ساعة يومياً وتجعل استعمال البيوت الزراعية البلاستيكية عديمة الفائدة، فهي صالحة أكثر بكثير من التربة العادية لزراعة الزهور. البيوت البلاستيكية باهظة التكلفة، إذ يجب الحفاظ باستمرار على وصول الهواء المعتدل البرودة إليها، وطرد الهواء الساخن منها. وشتلات الورد سريعة العطب، تجب حمايتها من التقلبات المناخية، وبخاصة من المطر والهواء البارد والحرارة الزائدة.
إلى أفريقيا، إلى كينيا وأثيوبيا بخاصة، اتجهت الشركات العالمية، وفي مقدّمها الشركات الهولندية والإسرائيلية، لاستثمار زراعة الزهور وتصنيع تجارتها في العالم. في مدينة ألزمير Alzmeer الهولندية التي تصدّر بحوالي 4 مليارات يورو سنوياً (84% من مجموع صادرات الزهور في العالم) يلتقي كلَّ يوم، ومنذ السادسة صباحاً، 12 ألفاً من متعهّدي الزهور و3 آلاف من المقاولين، لمدة 3 ساعات، لبيع وشراء حوالي 20 مليون وردة يُباع قسمٌ كبيرٌ منها على الإنترنت، بسعر يتراوح بين 35 و120 دولاراً، في حين أن تكلفة إنتاجها في أفريقيا لا تتعدى دولاراً واحداً، حيث لا وجود لقوانين عمل وحقوق عمال والأجور أدنى منها في بلدان الشمال بما لا يُقاس.
يتقاضى العامل (ومعظم العاملين في زراعة الورد في كينيا وأثيوبيا نساء) أقل من يورو واحد في اليوم الواحد، في كينيا، وأقل من ذلك في أثيوبيا. فكل الغنج والدلال الذي تلقاه الورود لا يصل منه شيءٌ إلى العاملات في زراعته، فهنّ غالباً ما يعملن أجيرات لوقت معيّن ويمكن صرفهنّ من عملهنّ في أي لحظة، ولا خيار لهنّ للعمل في مكان آخر.
تنطوي زراعة الزهور على مخاطر جمة على المناخ والتربة والمياه. فمن المشكلات البيئية الخطيرة الناجمة عن زراعة الورود تلوّث الأجواء بالسماد الاصطناعي والمبيدات الحشرية المضرّة بصحة العاملات والعاملين، فبعضها مُسرطِن، يُحرَّم استخدامه في أوروبا. تلك المبيدات تُرش مرتين في الأسبوع، وبعد نصف ساعة من رشها فقط يُرغَم العمال على استئناف العمل، من دون توفير اللباس والأجهزة الواقية التي توفَّر الحماية لعمال هذا القطاع الزراعي في أوروبا. لذا غالباً ما يشكو العمال الأفارقة وبخاصة العاملات، من الدوخة وزوغان البصر وأوجاع الرأس وفقدان الذاكرة وهبوط الضغط وضيق التنفس والاضطراب العصبي.
حين تبلغ الوردة درجة معيَّنة من اللمعان في أوراقها يكون قد حان قطافها، فتقصّ بعناية فائقة في الصباح الباكر أو بعيد الظهيرة حين تكون الرطوبة في أعلى درجاتها وذبول الوردة في أبطأ درجاته. ثم تُنقَل للحفظ في مكان يُطيل أمد حيويتها قبل إدخالها إلى أمكنة التبريد. بعد ذلك، يأتي وقت التنسيق والتشكيل بحسب الحجم والطول واللون، وتبعاً لطلبات الزبائن وأذواقهم. وعندئذ تصبح جاهزة للبيع. تُنقَل إلى مطار نيروبي ثم إلى عواصم أوروبا حيث يجب أن تُباع خلال 24 ساعة حفاظاً على جمالها قبل أن تذوي وتفقد رونقها.
كينيا هي أول بلد مصدّر للزهور إلى أوروبا. يعمل 100 ألف عامل كيني في زراعة الزهور التي باتت منذ العام 1972 المورد الاقتصادي الثاني في كينيا، بعد الشاي، شريان الاقتصاد الكيني التقليدي. في العام 2007 حققت كينيا أرباحاً بقيمة 675 مليون دولار.
تحتلّ مزارع الزهور والورود في كينيا مساحات شاسعة، فبعضها يمتدّ مئات الهيكتارات. ولزراعة الزهور على نطاق واسع يلزم كميات هائلة من المياه.. والحلّ هو استغلال المياه الجوفية. في كينيا تتركز زراعة الزهور على الأراضي المحيطة ببحيرة نيفاشا وهي من البحيرات النادرة في العالم التي تحتوي مياهاً عذبة. هذه البحيرة باتت مهددة بالذواء والنضوب مثلما هي الثروة الحيوانية (وبخاصة الطيور والأسماك) الآخذة بالانقراض. ففي هذه البحيرة باتت تصبُّ اليوم مياه الصرف الصحي سواء كانت معالجة أم غير معالجة، وتجد في مياهها مبيدات الحشرات الزراعية والأسمدة الكيميائية. وبعدما كانت هذه البحيرة لعشرات السنين من أهمّ معالم أفريقيا السياحية، باتت مرتعاً للطحالب والأوساخ والمياه الآسنة.
وفي حين أن الحاجة إلى مياه الشفة تتزايد مع تناقص مياه البحيرة، يتزايد استهلاك المياه في ريّ مزارع الورود. لم تعد منابع المياه الواقعة في أعالي التلال المجاورة، والتي تغذي بحيرة نيفاشا وتُسقي أبناء المنطقة كافيةً، وبخاصة مع حلول مواسم ينقطع فيها تساقط الأمطار. تمتلك الشركات الخاصة الأجنبية 90% من الأراضي الواقعة على ضفاف البحيرة ولا يملك المجلس البلدي القدرة على الدفاع عن مصالح المواطنين في وجه مطامع هؤلاء المالكين الجدد. وهؤلاء يدركون جيداً أن البحيرة تتدهور لكنهم يواصلون استغلالها من دون فعل أيّ شيء لصيانتها. بطبيعة الحال توفّـر هذه الشركات فرص عمل لأبناء المنطقة لكن هؤلاء لا يفيدون إلا قليلاً من الاستثمارات الأجنبية هذه. غير أن "مجلس زهور كينيا" الذي تشكّـل حديثاً أخذ عل عاتقه تحسين شروط العمل في هذا القطاع بالتفاوض مع الشركات الأجنبية بغيةَ تطبيق معايير العمل الأوروبية في كينيا.
أثيوبيا (الحبشة) سوق آخر مفتوح للمضاربة على شروط العمل في كينيا، فالأجور في أثيوبيا أدنى بـ 15% منها في كينيا. حيث الأجر الشهري لا يتعدّى 22 يورو. علاوةً على رخص اليد العاملة، فإن موقع أثيوبيا (الحبشة) الجغرافي وخصوبة أرضها وتوافر المياه والمناخ الملائم (بين 16 و 36 درجة)، الخالي من الصقيع والعواصف الرملية، جعل منها جنة الشركات التي تستعبد العمال... وهناك عوامل أخرى تُسهِم في ازدهار صناعة الزهور في أفريقيا، وهي: تقديم ماء الريّ مجاناً، تيسير القروض بفوائد متدنية، توفير أراض بأسعار زهيدة، إعفاء الشركات المستثمرة ومعظمها أوروبية وإسرائيلية من الضرائب الجمركية عند التصدير، بوصف أثيوبيا مصنّفةً "بلداً نامياً غير متقدم"، وظروف العمل أشد قساوةً في حين أن التقنيات المستخدمة هي أكثر تطوّراً: التهوئة والري يُسيّران بحواسيب مبرمجة تتغيّر تلقائياً تبعاً للظروف المناخية ودرجة الحرارة والرطوبة.
معلومٌ أن البنّ هو مصدر العملة الصعبة لأثيوبيا (الحبشة) منذ أكثر من 50 عاماً. في العام 2006 صدّرت أثيوبيا 176 ألف طن من البن بقيمة 421 مليون دولار. أما صادراتها من الزهور فبلغت 1,4 مليار دولار. مساحة الأراضي المخصَّصة لزراعة البن 2200 هكتار، أما المساحة المخصَّصة لزراعة الزهور فهي 4500 هكتار. ثمة تحوّل ترعاه الحكومة الأثيوبية من زراعة البن إلى زراعة الزهور، وذلك بإعفاء مزارعي الزهور من الضرائب وتسهيل القروض لهم، وبيعهم أراض بأسعار متهاودة.
في أثيوبيا (الحبشة)، بحسب مصادرها الرسمية، أكثر من 100 شركة أجنبية تعمل في مجال البستنة. يعود معظمها إلى هولندا وإسرائيل والهند.
ولعلّ زراعة الزهور في أثيوبيا هي النبض المحرك للدورة الاقتصادية في البلاد، فإذا كانت شركات إنتاج الزهور في أثيوبيا (الحبشة) تشكو مثلاً من نقص في وسائل التبريد الضرورية لحفظ الزهور من التلف، فإن الحكومة الأثيوبية تجعل سدّ هذا النقص على رأس مهماتها.
وإذا كانت أثيوبيا (الحبشة) من أفقر بلدان العالم (متوسط دخل الفرد في السنة 160 دولاراً) وتعداد سكانها 80 مليون نسمة، فإن زراعة الزهور وفّرت فرص العمل لمئات الآلاف من الأثيوبيين.
يوجد في أثيوبيا (الحبشة) 250 شركة أجنبية مختصَّة في زراعة الورود، يمتلكها هولنديون وإسرائيليون يصدّرون منتجاتها مباشرة إلى مختلف مناطق العالم، حيث تباع بوصفها وروداً هولندية أو إسرائيلية أو يابانية، وتحمل أسماء فرنسية أو إنجليزية، ذات دلالة رومانسية... وأُّهمّ هذه الشركات شركة "مونصو فلور" (Monceau Fleurs)، أكبر شركة فرنسية بتمويل إسرائيلي لنقل الورود مباشرة من أثيوبيا وتوزيعها عبر أوروبا وبيعها إلى مختلف أنحاء العالم.
تستعمل هذه الشركات بذوراً مهجنة وأسمدة كمياوية ومبيدات ضارّة بالبشر والحيوان والبيئة، لجعل الورود أكبر حجما ولتقليص فترة نموّها من 60 إلى 45 يوماً. وتعمل في هذه المزارع نساء وفتيات صغيرات السن، لأكثر من 12 ساعة في اليوم.
بدأ الورد الأثيوبي يتفوّق على الكيني؛ فقد صدّرت أثيوبيا من الورود في السنوات الخمس الأخيرة ما يعادل صادرات كينيا منه خلال ثلاثين سنة. وقفزت صادرات أثيوبيا في العام الماضي 500% عنها في العام 2009. وفي العام 2009 حققت أثيوبيا أرباحاً بقيمة 180 مليون دولار.
حرب الزهور بين كينيا وأثيوبيا تندلع والهدف الاستراتيجي لكلّ منهما احتلال المكانة الأولى في السوق العالمية لتجارة الزهور.. فعلى سبيل المثال، يُنفِق الفرنسيون على شراء الزهور في السنة الواحدة 33 مليون يورو، لكنهم يُنفِقون أقلّ بكثير من السويسريين (83 مليون يورو) والنروجيين (59 مليون يورو) والهولنديين (53 مليون يورو)..
لإنتاج ورود رفيعة القيمة (والقيمة هنا مقصورة على الشكل واللون لا على الرائحة) تُستَخدَم أكثر التقنيات الزراعية تقدماً في قتل الحشرات والطفيليات وأدوية زراعية مخصصة لتركيز الألوان في النسيج النباتي. خلال 48 ساعة كحدّ أقصى يجب أن تكون الورود قد تمّ نقلها مسافة آلاف الكيلومترات لتصل إلى العواصم الأوروبية. ويقتضي هذا النقل أرفع تقنيات التبريد للحفاظ على درجة الرطوبة الملائمة الضرورية لإنقاذها من التلف. على الرغم من أن نقل الزهور لا يتمّ إلا بالطائرات (85% من الزهور يتم نقله بالطائرات) حيث تنبعث منه كميات هائلة من غاز الكربون، فإن الطاقة المصروفة لإنتاج وردة في كينيا (بما فيه نقلها بالطائرة) أدنى من 1/2 الطاقة المصروفة لإنتاجها في هولندا بالنظر إلى التدفئة والإضاءة اللتين لا يمكن زراعة الورود من دونهما في بيوت بلاستيكية. نفقات هذا النقل الباهظة تُقتَطَع من أجور العاملين في زراعتها وإنتاجها.
معظم الورود المنتجة في كينيا وأثيوبيا يذهب إلى أوروبا والهند ودولة الإمارات. أما الصين فقد باتت اليوم أول بلد منتِج للورود في العالم؛ ففيها 53 ألف شركة تعمل في مجال تجارة الزهور، 6700 شركة منها يحقق كل منها أرباحاً تفوق 5 ملايين يوان سنوياً (أي ما يفوق 625 ألف دولار). في العام 2004 بلغت مساحة الأراضي المخصصة لزراعة الزهور في الصين 636 ألف هكتار، وبلغت قيمة إنتاجها من الورود 43 مليار يوان (5,4 مليار دولار) صدَّرت منها ما قيمته مليار و 140 مليون دولار.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق