مقالات

،، تركيا والعرب ...
هل يمكن عودة مجد الخلافة العثمانية من جديد،،
                   
 إعداد : مجلة مؤسسة الفكر العربي

 ليس من بلد في العالم يقف حائراً على مفترق طرق الانتماء والهوية كما تقف تركيا اليوم حائرة بين الشرق أوروبا وآسيا فحسب بل لأنها
والغرب، لا لموقعها بين
منذ قرنمن الزمن تقريباً مع نشوء الجمهورية التركية التي قررت هجر التقاليد الإسلامية وتبنّي الشخصية الأوروبية. ثم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي زالت موجبات الرابطة التركية القديمة مع التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة، عبْر حلف شمال الأطلسي. وانفتحت أمام تركيا آفاقٌ أكثر رحابةً في جميع الاتّجاهات، شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً، فتطلّعت إلى إعادة بناء مجالها الحيوي في آسيا الوسطى، بين البلدان الناطقة بالتركية. كما سعت إلى تحسين علاقاتها مع إيران والهند والصّين والعالم العربي. كما سعت إلى الالتحاق بالاتّحاد الأوروبي.
"فاصلة التاريخ وهمزة وصل الجغرافيا" بحسب العبارة التي يستخدمها المحللون =الاستراتيجيون الأتراك، وذلك




يقول الخبير في الشؤون التركية لدى "مؤسّسة العلوم والسياسة في برلين " هاينز كرامر Hines Kramer في دراسة مهمة له نشرت في العام 1996، إن هناك ثلاثة عناصر للقوّة التركية هي: الاستقرار السياسي، والقدرات الاقتصادية، والقدرات العسكرية. وقد شهدت تركيا لاحقاً تطوّرات دعمت هذه النتيجة من تعميق الديمقراطية والاستقرار، وتهدئة المشكلة الكردية، وتقليص نفوذ المؤسّسة العسكرية، وتحسين العلاقات مع دول الجوار. وعلى المستوى العسكري، وبحسب كرامر، تعدّ تركيا الأقوى بين جيرانها عسكرياً، وميزان القوى الإقليمي في مصلحتها؛ فهي تصنع جزءاً كبيراً من سلاحها، بما فيه الطائرات المقاتلة والسفن الحربية. وتكفي قدرات تركيا العسكرية للدفاع عن تكامل البلاد القومي، لكنها ليست كافية لتقديم دعم عسكري لدور قوّة إقليمية طويل الأجل. لكن تركيا تتطلّع إلى دور يتخطّى "قدراتها لتصبح دولة ترسم النظام الإقليمي" على حدّ تعبير داود أوغلو. لكنها ما زالت غير قادرة على تطوير نفسها في المدى المنظور إلى قطب اقتصادي ومالي تتمحور حوله الدول المجاورة، وذلك على الرغم من تفوّقها على جميع جيرانها في الإنجاز الاقتصادي، فهي تمتلك قاعدة صناعية واسعة ووفرة في المواد الأولية، باستثناء الطاقة. كما أنّها مكتفية زراعياً، وتتمتّع بقاعدة متطوّرة من الموارد البشريّة، وهي مِنْ أقوى الاقتصادات الصاعدة، إذ زاد حجم الناتج المحلِّي التركي من 300 مليار دولار العام 2002 إلى 750 مليار دولار العام 2008، ثم 915 مليار دولار العام 2009 بمعدل نموّ متوسطه 7.3 في المئة سنوياً. كما ارتفع مستوى الدخل الفردي السنوي من 3300 دولار (2002) إلى 10 آلاف دولار (2008) فإلى 13 ألف دولار (2009)، وارتفعت الصّادرات من 30 مليار دولار إلى 130 مليار دولار في الفترة نفسها. وبذلك انتقلت تركيا من دولة تحتل المرتبة السادسة والثلاثين في سلّم الدول المتقدمة إلى المرتبة الرابعة عشرة ويُتوقّع أن تكون في المرتبة الحادية عشرة في السنتين المقبلتين.
بدأت تظهر تغيرات في السياسة التركية منذ نهاية عقد الثمانينيّات مع التغيّرات في النظام الدولي والإقليمي، إذ أثّر ذلك في نظرة تركيا إلى الشرق الأوسط، إثر انتهاء العالم ثنائي القطب بعد نهاية الحرب الباردة، وهو ما أتاح لأنقرة إمكانية الاهتمام بالقضايا الإقليمية. وقد وقعت في تلك الفترة أحداث كبرى تأثّرت بها تركيا كثيراً، كانهيار الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج الأولى ثم حرب العراق، التي رفعت من اهتمام تركيا بالشّرق الأوسط، فبدأت تظهر في الداخل التركي نقاشات تركّزت حول كيفيّة تطوير الاهتمام بالشرق الأوسط.
أسهمت المشكلات الجديدة في المنطقة كالحرب العراقية وفشل الولايات المتحدة الأميركية في ترسيخ النظام الجديد في الشرق الأوسط وتسوية الصراع العربي- الإسرائيلي، في إبراز فعالية تركيا وانفتاح الساحة أمامها للعب دور متعاظم في المنطقة. فركّزت سياسة أنقرة على خفْض الخلافات مع الجيران إلى درجة الصفر، وحملت مشروع تحويل العلاقات التي كانت تشهد مشكلات في الماضي وحلّها بالحوار لا بالقوة العسكرية، وتحقيق التعاون مع الجوار، بإيجاد حلول مفيدة للطّرفين. ففي العام 1998 كادت تركيا وسوريا مثلاً تصلان إلى حافة الحرب، لكن العلاقات تحسّنت بسرعة بعد ذلك. كما طوّرت تركيا سياسة الحوار مع جميع أطراف الصراع في العراق وتفادي عرقلته بسبب مشكلة شمال العراق، وتطوير علاقاتها مع إيران.
منذ أواخر التسعينيّات من القرن الماضي انتهجت تركيا سياسة توافقيّة مع جيرانها الأوروبيّين والآسيويّين والعرب. وشكّل وصول حزبِ العدالة والتنمية ذي الاتّجاه الإسلامي إلى رأس السّلطة في تركيا العام 2002 أحد أبرز التّغيرات السّياسية المحدّدة للعلاقات التركية-العربية. وكان للتّحوّل الجوهري في المسار الاستراتيجي للسّياسة الخارجية التركية بصماته العميقة، أبرزها انعكاساته على تطوّر العلاقة بين تركيا والعالم العربي، والتي توّجت بازدهار العلاقات التجارية بين الجانبيْن من نحو 4.7 مليار دولار العام 1992 إلى 22.5 مليار دولار في العام 2007. كما تحسّنت العلاقات العربية - التركيّة على المستوييْن الرّسمي والشّعبي على نحو لافت في السّنوات الأخيرة، وبلغت ذروتها الفعلية والرّمزية في لحظات فاصلة من تطوّر القضيّة الفلسطينية، خصوصاً مع مواقف رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في مواجهة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة في آخر العام 2008 وبداية العام 2009، وبمناسبة الاعتداء على أسطول الحريّة الذي سعى إلى كسر الحصار على غزّة في حزيران/يونيو 2010. فحينما انفجر غضب أردوغان في مؤتمر دافوس العام الماضي أثناء البحث في موضوع العدوان الإسرائيلي على غزة وخرج من المؤتمر قائلاً "لن أعود إلى دافوس" احتجاجاً على خطاب شمعون بيريس طرحت تركيا على العرب إنشاء مجال اقتصادي مشترك مع بلدان عربية مجاورة لها شبيه بمجال شينغن الأوروبي. مواقف تركيا الموالية للعرب بوابة لدخول البضائع التركية إلى الأسواق العربية.

                                 تركيا والسوق العربية

ارتفع حجم الصادرات التركية نحو البلدان الإسلامية من 24% في العام 2006 إلى 28% العام 2008. ويقول المختص البارز في الشؤون التركية محمد نور الدين إنّ "من أصل 300 مليار دولار قيمة التجارة الخارجية التركية العام 2008، فإنّ حصّة العالم العربي لا تتعدّى 17 ملياراً فقط، وهو رقم دون الحجم المأمول بلوغه، حيث تحتاج العلاقات الاقتصادية إلى مزيد من التطوير والمتابعة". ويرى نور الدين (راجع كتاب الحوار العربي التركي ـ مركز دراسات الوحدة العربية) أن التعاون بين العرب والأتراك في الاقتصاد والسّياسة والثّقافة والاجتماع يمكن أن يُفضي إلى إنشاء سوق اقتصاديّة مشتركة بين الجانبين لتصدير النفط والغاز وإنشاء المشاريع المائية والصناعية والزراعية والاستثمار المتبادل، والاستثمار العربي في تركيا في العقارات والسّياحة والتصنيع والزراعة.. ويخلص نور الدين إلى أن هناك حاجة ملحّة لتشكيل لجنة تقييم مشتركة عربية- تركية ترصد واقع كلّ طرف وإمكاناته، بحيث تسهل الاستفادة من ثغرات الطّرف الآخر لمزيد من التكامل الاقتصادي.

مع سوريا بلغت اتفاقيات تركيا الاقتصادية أقصاها. ويعود التقارب السياسي الذي فتح الطريق واسعاً أمام تلك الاتفاقيات إلى العام 1991 حينما اعترف العراق بحكم ذاتي لكردستان العراقية، فتوافقت مصالح سوريا وتركيا في الخشية من قيام كردستان كبرى تضم أكراد سوريا وتركيا والعراق وإيران. لكن ذلك التقارب التركي السوري لم يحُلْ دون اقتراب البلدين من نشوب نزاع حاد في العام 1999 حينما منحت سوريا حق اللجوء للزعيم الكردي المعادي لتركيا عبد الله أوغلان، لكنها عادت وأبعدته فاعتُقِل في كينيا. وانفتح عندئذ باب حسن الجوار بين البلدين؛ ففي العام 2004 قام بشار الأسد بزيارة لتركيا كانت الأولى التي يقوم بها رئيس سوري إلى تركيا منذ العام 1949.
بعد 3 سنوات أنشأ البلدان هيئةً وزاريةً مشترَكةً وأبرما اتفاقاً للتبادل التجاري الحرّ بينهما قضى بإلغاء الحواجز الجمركية أمام البضائع السورية نحو تركيا، ثم تدريجاً أمام البضائع التركية إلى سوريا، مدته 12 عاماً. وفي العام 2009 أُلغيَت تأشيرات الدخول أمام رعايا كلا البلدين، وتشكّل المجلس الأعلى التركي السوري الذي انعقد المرة الأولى في دمشق ووقّع على أكثر من خمسين اتفاقية تعاون في ميادين شتى. سارت عمليات التعاون ببطء بين البلدين في أول الأمر، ثم ما لبثت أن تسارعت منذ عام ونصف العام. ويقول رئيس غرفة الصناعة السورية في حلب (فارس الشهابي) إن هذا الاتفاق من شأنه أن ينشط الاقتصاد المحلي على المدى الطويل. كما يقول رئيس مجلس رجال الأعمال السوريين والأتراك في دمشق (بلال تركماني) إن اتفاق التبادل الحرّ بين البلدين قد يؤثر على سوريا سلبياً على المدى القصير بالنظر إلى ضعف قدرة المنتجات السورية على منافسة المنتجات التركية، إلا أن ميزان المدفوعات سيتوازن على المدى البعيد، فالعجز التجاري سيتمّ تعويضه بالاستثمارات التركية في ميدان الصناعة والطاقات الجديدة والبنية التحتية والسياحة. هذه العلاقة مفيدة لكلا الطرفين" (راجع تصريحات المسؤولين السوريين لصحيفة لاكروا La Croix الفرنسية 12 حزيران/ يونيو 2010).
يقول بيار رازو Pierre Razoux مسؤول الأبحاث في "معهد الدفاع" (Collège de défense) التابع لحلف شمال الأطلسي (الناتو) إن "تركيا تفرض نفسها أكثر فأكثر كنموذج يروق في عيون العرب بعدما انحسر ظل مصر عن العالم العربي وامّحى دور العراق وعُزِلت سوريا. فمن الرباط إلى بغداد وغزة ينظر العالم العربي إلى تركيا بوصفها ديمقراطية يتزايد ازدهارها الاقتصادي الذي أفلح في إيجاد التوازن بين حكم يحمل القيم الإسلامية ومؤسّسة عسكرية علمانية تحول دون وصول نظام إسلامي أصولي". لكن هذا الإسلام المتوازن الذي وجد له صدى بين المسلمين العرب، وبخاصة في سوريا، والذي يتحاور مع النظام السوري على مرحلة الحكم المقبلة، يصطدم بأصوليات إسلامية متطرفة. ويرى كريم بقرادوني السياسي اللبناني المخضرم، يرى أن نوايا تركيا من وراء تعاونها الاقتصادي مع سوريا لا ينسحب على المجال السياسي إزاء ما يتهدّد النظام السوري حالياً من اضطرابات أمنية، ويرى أن "المحاولات الجارية في المنطقة العربية لتقسيم الدول العربية إلى دويلات هي مشروع تفيد منه تركيا وتتوافق فيه مصالح ثلاث إمبراطوريات هي الأميركية والتركية والإسرائيلية" (حديث تلفزيوني إلى مهى شمس الدين، مقدِّمة برنامج "ثورات عربية ـ 2011" في قناة NBN الساعة 21 الإثنين 6 حزيران/ يونيو 2011).

                  صورة مشوهة متبادلة بين العرب والأتراك

رسم الغرب أمام رأيه العام صورة مشوّهة للأتراك والعرب معاً، فهم جميعاً فاسدون مفسِدون مستبدون، تلخصت صورتهم تلك في كتاب "الاستبداد الشرقي" الذي راج في الغرب وتُرجِم إلى لغات عدّة، بما فيها العربية، فبهر المثقفين العرب بوصفه كتاباً علمياً، بالنظر إلى أن مؤلفه الألماني Karl Wittfogel المتوفى العام 1988 هو من مفكري "مدرسة فرنكفورت". كذلك أسهمت الأجيال العربية التي عايشت انسلاخ المناطق العربية عن الحكم العثماني بعد سقوطه واستقلالها على أثر هزيمته في الحرب العالمية الأولى في ترسيخ الصورة القديمة السلبية للأتراك. ولعلّ قاسماً ثقافياً مشتركاً يدلّ على مدى التواصل بين الثقافتين التركية والعربية علاوةً على اشتراكهما في الدين وتأثيرهما الّلغوي المتبادل على مدى أربعة قرون، يتمثل في شخصية جحا الماكرة والساذجة في آن، والتي لم يعُد يُعرَف هل هي عربية أو تركية المنشأ لشدّة اندماجها بالتراث الشعبي للطرفين. بيد أن صورة جديدة للأتراك بدأت ترتسم لدى العرب مفعمةً بالنجاح السياسي والازدهار الاقتصادي. فتجربة الإسلام الديمقراطي في تركيا قد تجتاح العالم العربي بدليل العبارة التي لخّص بها وزير خارجية تركيا الحالي أحمد داوود أوغلو استراتيجية السياسة التركية في المنطقة العربية بأنها "تتجه نحو جعل مشكلات تركيا مع العالم العربي في منزلة الصفر" مُضيفاً إليها عبارة كانت أشبه بشعار ذي دلالة دولية: "جيراننا هم العرب وإيران وليست فرنسا ولا ألمانيا"، العرب بدءاً من سوريا التي لعب الأتراك دور الوسيط لنزع فتيل الخلافات بينها وبين العراق، ثم بينها وبين السعودية. كما أن تركيا لعبت دور الوسيط بين إيران وبين الغرب، حتى أن البعض وصف أوغلو بأنه "الدبلوماسي العثماني الجديد"، حينما قال إن "أنقرة هي المحور، وأفق سياستها يغطي مساحة على اتّساع 360 درجة من حولها، أي مساحة دائرة بأكملها".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق